سورة النساء - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


ولما ذكر أموال اليتامى على حسب ما دعت إليه الحاجة واقتضاه التناسب إلى أن ختم بهذه الآية، كان كأن سائلاً سأل: من أين تكون أموالهم؛ فبين ذلك بطريق الإجمال بقوله تعالى: {للرجال} أي الذكور من أولاد الميت وأقربائه، ولعله عبر بذلك دون الذكور لأنهم كانوا لا يورثون الصغار، ويخصون الإرث بما عمر الديار، فنبه سبحانه على أن العلة النطفة {نصيب} أي منهم معلوم {مما ترك الوالدان والأقربون}.
ولما كانوا لا يورثون النساء قال: {وللنساء نصيب} ولقصد التصريح للتأكيد قال موضع مما تركوا: {مما ترك الوالدان والأقربون} مشيراً إلى أنه لا فرق بينهن وبين الرجال في القرب الذي هو سبب الإرث، ثم زاد الأمر تأكيداً وتصريحاً بقوله إبدالاً مما قبله بتكرير العامل: {مما قل منه أو كثر} ثم عرف بأن ذلك على وجه الحتم الذي لا بد منه، فقال مبيناً للاعتناء به بقطعه عن الأول بالنصب على الاختصاص بتقدير أعني: {نصيباً مفروضاً} أي مقدراً واجباً مبيناً، وهذه الآية مجملة بينتها آية المواريث، وبالآية علم أنها خاصة بالعصبات من التعبير بالفرض لأن الإجماع- كما نقله الأصبهاني عن الرازي- على أنه ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر.
ولما بين المفروض أتبعه المندوب فقال تعالى: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى} أي ممن لا يرث صغاراً أو كباراً {واليتامى والمساكين} أي قرباء أو غرباء {فارزقوهم منه} أي المتروك، وهو أمر ندب لتطييب قلوبهم، وقرينة صرفه عن الوجوب ترك التحديد {وقولوا لهم} أي مع الإعطاء {قولاً معروفاً} أي حسناً سائغاً في الشرع مقبولاً تطيب به نفوسهم.


ولما أعاد الوصية باليتامى مرة بعد أخرى، وختم بالأمر بالإنة القول، وكان للتصوير في التأثير في النفس ما ليس لغيره؛ أعاد الوصية بهم لضعفهم مصوراً لحالهم مبيناً أن القول المعروف هو الصواب الذي لا خلل فيه فقال: {وليخش} أي يوقع الخشية على ذرية غيرهم {الذين} وذكر لهم حالاً هو جدير بإيقاع الخشية في قلوبهم فقال: {لو تركوا} أي شارفوا الترك بموت أو هرم، وصوّر حالهم وحققه بقوله: {من خلفهم} أي بعد موتهم أو عجزهم العجز الذي هو كموتهم {ذرية} أي أولاداً من ذكور أو إناث {ضعافاً} أي لصغر أو غيره {خافوا عليهم} أي جور الجائرين.
ولما تسبب عن ذلك التصور في أنفسهم خوفهم على ذرية غيرهم كما يخافون على ذريتهم سواء كانوا أوصياء أو أولياء أو أجانب، وكان هذا الخوف ربما أداهم في قصد نفعهم إلى جور على غيرهم؛ أمر بما يحفظهم على الصراط السوي بقوله: {فليتقوا} وعبر بالاسم الأعظم إرشاداً إلى استحضار جميع عظمته فقال: {الله} أي فليعدلوا في أمرهم ليقيِّض الله لهم من يعدل في ذريتهم، وإلا أوشك أن يسلط على ذريتهم من يجور عليهم {وليقولوا} أي في ذلك وغيره {قولاً سديداً} أي عدلاً قاصداً صواباً، ليدل هذا الظاهر على صلاح ما أتمره من الباطن.
ولما طال التحذير والزجر والتهويل في شأن اليتامى، وكان ذلك ربما أوجب النفرة من مخالطتهم رأساً فتضيع مصالحهم؛ وصل بذلك ما بين أن ذلك خاص بالظالم في سياق موجب لزيادة التحذير فقال مؤكداً لما كان قد رسخ في نفوسهم من الاستهانة بأموالهم: {إن الذين} ولما كان الأكل أعظم مقاصد الإنسان عبر به عن جميع الأغراض فقال: {يأكلون أموال اليتامى ظلماَ} أي أكلاً هو في غير موضعه بغير دليل يدل عليه، فهو كفعل من يمشي في الظلام، ثم أتبعه ما زاده تأكيداً بالتحذير في سياق الحصر فقال: {إنما يأكلون} أي في الحال وصور الأكل وحققه بقوله: {في بطونهم ناراً} أي تحرق المعاني الباطنية التي تكون بها قوام الإنسانية وبين أنها على حقيقتها في الدنيا ولكنا لا نحسها الآن لأنها غير النار المعهودة في الظاهر بقوله- مكرراً التحذير مبيناً بقراءة الجماعة بالبناء للفاعل أنهم يلجؤون إليها إلجاء يصيّرهم كأنهم يدخلونها بأنفسهم: {وسيصلون} أي في الآخرة- بوعيد حتم لا خلف فيه {سعيراً} أي عظيماً هو نهاية في العظمة، وذلك هو معنى ابن عامر وعاصم بالبناء للمجهول، أي يلجئهم إلى صليها ملجئ قاهر لا يقدرون على نوع دفاع له.


ولما تم ذلك تشوفت النفوس إلى بيان مقادير الاستحقاق بالإرث لكل واحد، وكان قد تقدم ذكر استحقاق الرجال والنساء من غير تقييد يتيم، فاقتضت البلاغة بيان أصول جميع المواريث، وشفاء العليل بإيضاح أمرها، فقال- مستأنفاً في جواب من كأنه سأل عن ذلك مؤكداً لما أمر به منها غاية التأكيد مشيراً إلى عظمة هذا العلم بالتقدم في الإيصاء في أول آياته، والتحذير من الضلال في آخرها، ورغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نصف العلم، وحذر من إضاعته بأنه أول علم ينزع من الأمة: {يوصيكم الله} أي بما له من العظمة الكاملة والحكمة البالغة، وبدأ بالأولاد لأن تعلق الإنسان بهم أشد فقال: {في أولادكم} أي إذا مات مورثهم.
ولما كان هذا مجملاً كان بحيث يطلب تفسيره، فقال جواباً لذلك بادئاً بالأشرف بياناً لفضله بالتقديم وجعله أصلاً والتفضيل: {للذكر} أي منهم إذا كان معه شيء من الإناث، ولم يمنعه مانع من قتل ولا مخالفة دين ونحوه {مثل حظ الأنثيين} أي نصيب من شأنه أن يغني ويسعد، وهو الثلثان، إذا انفردتا فللواحدة معه الثلث، فأثبت سبحانه للإناث حظاً تغليظاَ لهم من منعهن مطلقاً، ونقصهن عن نصيب الرجال تعريضاً بأنهم أصابوا في نفس الحكم بانزالهن عن درجة الرجال.
ولما بان سهم الذكر مع الأنثى بعبارة النص، واشعر ذلك بأن لهن إرثاً في الجملة وعند الاجتماع مع الذكر، وفُهم بحسب إشارة النص وهي ما ثبت بنظمه، لكنه غير مقصود، ولا سبق له النص- حكم الأنثيين إذا لم يكن معهن ذكر، وهو أن لهما الثلثين، وكان ذلك أيضاً مفهماً لأن الواحدة غذا كان لها مع الأخ الثلث كان لها ذلك مع الأخت إذا لم يكن ثمَّ ذكر من باب الأولى، فاقتضى ذلك أنهن إذا كن ثلاثاً أو أكثر ليس معهم ذكر استغرقن التركة، وإن كانت واحدة ليس معها ذكر لم تزد على الثلث؛ بين أن الأمر ليس كذلك- كما تقدم- بقوله مبيناً إرثهن حال الانفراد: {فإن كن} أي الوارثات {نساء} أي إناثاً.
ولما كان ذلك قد يحمل على أقل الجمع، وهو اثنتان حقيقة أو مجازاً حقق ونفى هذا الاحتمال بقوله: {فوق اثنتين} أي لا ذكر معهن {فلهن ثلثا ما ترك} أي الميت، لا أزيد من الثلثين {وإن كانت} أي الوارثة {واحدة} أي منفردة، ليس معها غيرها {فلها النصف} أي فقط.
ولما قدم الإيصاء بالأولاد لضعفهم إذا كانوا صغاراً، وكان الوالد أقرب الناس إلى الولد وأحقهم بصلته وأشدهم اتصالاً به أتبعه حكمه فقال: {ولأبويه} أي الميت، ثم فصل بعد أن أجمل ليكون الكلام آكد، ويكون سامعه إليه أشوق بقوله مبدلاً بتكرير العامل: {لكل واحد منهما} أي أبيه وأمه اللذين ثنيا بأبوين {السدس مما ترك} ثم بين شرط ذلك فقال: {إن كان له} أي الميت {ولد} أي ذكر، فإن كانت أنثى أخذ الأب السدس فرضاً، والباقي بعد الفروض حق عصوبة.
ولما بين حكمهما مع الأولاد تلاه بحالة فقدهم فقال: {فإن لم يكن له ولد} أي ذكر ولا أنثى {وورثه أبواه} أي فقط {فلأمه الثلث} أي وللأب الباقي لأن الفرض أنه لا وارث له غيرهما، ولما كان التقدير: هذا مع فقد الإخوة أيضاً، بني عليه قوله: {فإن كان له إخوة} أي اثنان فصاعدا ذكوراً أو لا، مع فقد الأولاد {فلأمه السدس} أي لأن الإخوة ينقصونها عن الثلث إليه، والباقي للأب، ولا شيء لهم، وأما الأخت الواحدة فإنها لا تنقصها إلى السدس سواء كانت وارثة أو لا، وكذا الأخ إذا كان واحداً، ثم بين أن هذا كله بعد إخراج الوصية والدين لأن ذلك سبق فيه حق الميت الذي جمع المال فقال: {من بعد وصية يوصي بها} أي كما مندوب لكل ميت، وقدمها في الوضع على ما هو مقدم عليها في الشرع بعثاً على أدائها، لأن أنفس الورثة تشح بها، لكونها مثل مشاركتهم في الإرث لأنها بلا عوض {أو دين} أي إن كان عليه دين.
ولما كان الإنسان قد يرى أن بعض أقربائه من أصوله أو فصوله أو غيرهم أنفع له، فأحب تفضيله فتعدى هذه الحدود لما رآه، وكان ما رآه خلاف الحق في الحال أو في المآل، وكان الله تعالى هو المستأثر بعلم ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما» الحديث لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف شاء؛ قال تعالى حاثاً على لزوم ما حده مؤكداً بالجملة الاعتراضية- كما هو الشأن في اعتراض- لأن هذه القسمة مخالفة لما كانت العرب تفعله، وهي على وجوه لا تدرك عللها: {أبآؤكم وأبنآؤكم} أي الذين فضلنا لكم إرثهم على ما ذكرنا {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} أي من غيره، لأنه لا إحاطة لكم في علم ولا قدرة، فلو وكل الأمر في القسمة إليكم لما وضعتم الأمور في أحكم مواضعها.
ولما بين أن الإرث على ما حده سبحانه وتعالى مؤكداً له بلفظ الوصية، وزاده تأكيداً بما جعله اعتراضاً بين الإيصاء وبين {فريضة} بين أنه على سبيل الحتم الذي من تركه عصى، فقال ذاكراً مصدراً مأخوذاً من معنى الكلام: {فريضة من الله} أي الذي له الأمر كله، ثم زادهم حثاً على ذلك ورغبة فيه بقوله تعليلاً لفريضته عليهم مطلقاً وعلى هذا الوجه: {إن الله} أي المحيط علماً وقدرة {كان} ولم يزل ولا يزال لأن وجود لا يتفاوت في وقت من الأوقات، لأنه لا يجري عليه زمان، ولا يحويه مكان، لأنه خالقهما {عليماً} أي بالعواقب {حكيماً} أي فوضع لكم هذه الأحكام على غاية الإحكام في جلب المنافع لكم ودفع الضر عنكم، ورتبها سبحانه وتعالى أحسن ترتيب، فإن الوارث يتصل بالميت تارة بواسطة وهو الكلالة، وأخرى بلا واسطة، وهذا تارة يكون بنسب، وتارة بصهر ونسب، فقدم ما هو بلا واسطة لشدة قربه، وبدأ منه بالنسب لقوته، وبدأ منهم بالولد لمزيد الاعتناء به.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8